Wednesday 3 January 2007

أعط العيش لخبازه يا خالد يوسف







أثارت اللغة المباشرة في فيلم "خيانة مشروعة" حفيظة الكثيرين من النقاد والمشاهدين، خاصة أن مخرجه خالد يوسف قد أعلن مرارا وتكرارا عن توجهاته السياسية بشكل واضح ومحدد، ربما أكثر من اللازم. والحقيقة أننا يجب أن نقف هنا وقفة؛ فالمخرج خالد يوسف لم ينكر يوما أنه ذو توجهات اشتراكية يسارية، والمعروف أن مدرسة الفن الاشتراكي تعتمد المباشرة في توصيل رسالتها للجمهور، ولا مجال هنا لسرد حيثيات مدرسة الفن الاشتراكي في اعتمادها لهذا المنهج، المقصود هنا هو أن استعانة مخرج ما بمدرسة فنية تمثل فكره السياسي لا يعيبه في شيء، وإن أزعج هذا المنتمين للمدارس الفنية الأخرى، ويبقى تقييم المستوى الفني الذي يقدمه الفنان في إطار المدرسة الفنية التي اختارها للتعبير عن نفسه.

فيلم "خيانة مشروعة" هو رسالة سياسية، تهدف بالطبع إلى نقد وتقييم النظام الرأسمالي "العشوائي" الذي استشرى في مصر، خاصة بعد ما يسميه اليساريون: انقلاب 15 مايو 1971، وهو ما يسميه الرأسماليون بثورة التصحيح، ويستخدم "الرمزية المباشرة" لاستعراض التيارات السياسية الموجودة حاليا في مصر، كما يستعين بشخصيات عامة المفترض أنها تمثل دورها الذي تؤديه في الواقع. واختيار خالد يوسف للقالب البوليسي للفيلم، أظن، والله أعلى وأعلم، أنه اختيار متعمد للإشارة إلى أن البلاد تعيش سياسيا تحت مظلة الشرطة، واقتصاديا تحت عجلات الرأسمالية.

"هشام البحيري" – هاني سلامة - و"صلاح البحيري" – عمرو سعد -، ابنان لرجل الأعمال الشهير، الذي كان "يتمركس بعض الأيام يتمسلم بعض الأيام ويصاحب كل الحكام وبستاشر ملة"، فهو العامل الاشتراكي في عهد توهج الثورة، وهو رجل الأعمال "العصامي" الذي استجاب لدعوة الرئيس الراحل أنور السادات: "اللي مش ح يعمل فلوس في عهدي مش ح يعمل فلوس أبدا..."، وهو أحد الحيتان الكبار في العصر الحالي. "صلاح البحيري" الابن الأكبر لرجل الأعمال، وهو ذراع والده الأيمن، المهتم بإدارة أعماله، والذي ينجح في استقطاب "ريم" – مي عز الدين - الصحفية الشريفة، التي تنشر تحقيقا صحفيا، في جريدة الدستور، تفضح فيه تعفن مؤسسة البحيري وفسادها، ولكن صلاح البحيري ينجح في التدليس على الفتاة الساذجة – التي تمثل من وجهة النظر اليسارية فيما يسمونه بالتيار الشعبوي – ويعرض عليها مستندات مزيفة تثبت نزاهة موقف مؤسسة البحيري، ثم يوقعها في شباكه ويتزوجها. أما "هشام البحيري" فهو الابن المدلل، المنخرط في نزواته وملذاته، تتملكه نعرة الكبر والغرور وتدفع به إلى قتل أحد أصدقائه في مشاجرة حول فتاة، مستخفا بالقانون حيث يقوم أخوه وأبوه بحمايته منه، مدعين أنهم لا يخالفون شرع الله ويدفعون دية القتل الخطأ. ولكن العلاقة بين الأب والأخوين لا تعدو كونها غيرة "قبلية" على اسم العائلة ومستقبل المؤسسة الرأسمالية ومكانتها. تتراوح الإسقاطات "المباشرة" ما بين الإشارة إلى أن المؤسسة هي نموذج للنظام الرأسمالي، وهي أيضا رمز لمصر ذاتها، ويقدم الموظف المسيحي - يقوم بدوره خالد يوسف - وهو يعترض، بخنوع وتردد، على فساد المؤسسة، ولكنه لا يجرؤ على الإقدام على خطوة إيجابية لحاجته إلى مرتبه المجزي الذي يتقاضاه من مجموعة البحيري، وهو – في رأيي – ينافي الحقائق التاريخية.

يصر الأب، وهو على فراش الموت، أن يكتب كل ثروته باسم ابنه الكبير "صلاح"، كنوع من التهديد لابنه "هشام"، ويأخذ عهدا على "صلاح" بأن ينتظر حتى يستقيم أمر أخيه، حين يفقد الأمل من حصوله على نصيبه في الميراث، ثم يعطيه نصيبه كاملا غير منقوص جزاء وفاقا على عودته إلى جادة الصواب! ومفهوم الاستقامة عند الأب والابن الأكبر يختلف تماما عن مفهوم رئيس تحرير جريدة الدستور إبراهيم عيسى، الذي يظهر في الفيلم ممثلا نفسه، حين يؤكد أن "هشام" هو أنظف من في هذه العائلة، لأنه ليس طرفا في صفقاتهم المشبوهة، ولا فسادهم الرأسمالي، أما الأب والأخ الفاسدان فهم يدينان فساد "هشام" لكثرة نزواته النسائية. على أية حال، فما يزرعه صلاح في أخيه هشام يجنيه بعد ذلك، حيث يقتل هشام أخاه الأكبر ظنا منه أنه سطا على حقه في ميراثه من أبيه.
خالد يوسف في فيلمه، بداية من العنوان ومرورا ببعض التفاصيل، وانتهاء بإعدام هشام البحيري، أو إعدام الرأسمالية، يريد أن يقول أن الفساد لا يتجزأ، وأن ما هو مرفوض من حيث المبدأ لا يمكن المصالحة معه تحت أية تبريرات أو مسوغات.

طيب واحدة واحدة يا باشمهندس خالد، وتعالى نناقش بعض النقاط التي لم تخدم رسالتك في الفيلم: أولا، سأبدأ فيما يخصني؛ الفيلم ذكوري يا أستاذ خالد، فـ"شهد" – سمية الخشاب –، التي اخترتها لتمثل الطبقة الكادحة، ضحية الخصخصة والرأسمالية والثقافة الاستهلاكية، والتي أقامت علاقة غير مشروعة مع الرأسمالية المتمثلة في هشام، هي المحرض الأول على الشر، والقتل، والعنف. أتفق معك في أن الطبقة الكادحة في المجتمع الرأسمالي، تكون الأكثر شراسة وعنفا، وأحداث التحرش بوسط المدينة شاهد على ذلك، ولكن لماذا اخترتها امرأة؟ بدا لنا أن هشام البحيري، هو في أصل فطرته نقي السريرة، وأن سقطته الوحيدة، ألا وهي ضعفه نحو النساء، هي التي قادته إلى الشر والقتل؟ كما أنه حين وجد فرصة لاستخراج ما بداخله من خير، كان محفزه الأساسي هو حبه لـ"ريم" الخيرة، الطيبة، وهو تحليل ذكوري لمنطق الأشياء؛ فالرجل خير بطبعه وما يدفعه إلى الشر هو شيطان الغواية المتمثل في المرأة! هذه هي الذكورية "على أبوها".
ثانيا: أنت بالطبع، ترفض أي حلول وسط، تقدمها التيارات الوطنية الأخرى، التي ترى بوجوب قبول كل مخالف لها من التيارات الموجودة بالفعل في المجتمع، والتعامل معها، واستخراج أفضل مافيها من خلال منح الحرية المطلقة لكل منها، وتقدمهما من – خلال "ريم" – في صورة البلهاء "الهطل" بعض الشيء – كتر خيرك يا عم خالد، خبطت فيا أنا دي– ولكن لا بأس، فلماذا إذن لجأت إلى إبراهيم عيسى رئيس تحرير الدستور وهو من أهم رموز هذا التيار، الذي تسمونه أنتم بالشعبوي الديماجوجي؟ بل وتقدم إبراهيم عيسى، تحيط به صور المناضل تشي جيفارا من كل الاتجاهات؟ والمناضل الشيوعي جيفارا، لم يعد في حد ذاته ممثلا للتيار الماركسي بالضرورة، ولكن في سياق هذا الفيلم بالتحديد، فجيفارا هو رمز للماركسية، فهل إبراهيم عيسى ماركسي؟ بالطبع لا، وإن دافع عن حقوق الفقراء، وهو ليس إخوانيا وإن دافع عن طلبة الأزهر، وليس ليبراليا بالمعنى السياسي الحرفي للكلمة وإن دافع عن أيمن نور، وقسما بالله ليس بهائيا وإن أقر بحق البهائيين في الاعتراف بهم كمواطنين، وقطعا ليس شيعيا وإن ساند المقاومة اللبنانية، التي سخرت منها يا أستاذ خالد في أحد مشاهدك وأنت تعرض الفتى الفقير - المبتلع بمرارة لانحراف أخته التي تنفق على أسرتها مما تتقاضاه مقابل بيع جسدها - وهو يضرب من أهل الحارة وصوت السيد حسن نصر الله في التلفاز يقول: "علينا أن نصبر ونصمد حتى يأتي النصر بإذن الله". ولا أدري ما إذا كان إبراهيم عيسى قد قرأ السيناريو كاملا قبل أن يشترك فيه أم لا؟ ولا أدري كيف يرضى أن يقدم نفسه بصفة غير حقيقته؟
ثالثا: ما كل هذا التعاطف مع الشرطة وأنت تنقم على الجو البوليسي الذي تعيش فيه البلاد؟ وما كل هذه الأصولية الماركسية السوفيتية التي تبرر انتهاك حقوق الإنسان وتعذيب المواطنين لانتزاع الاعترافات منهم إذا كان الغرض شريفا؟! (لازم سوفيتي؟ ماله الماوي، وللا العمالي، وللا التروتسكي حتى؟) ألم تسمع عن حملة "لا للتعذيب"؟ هل هذا وقت إعطاء تبريرات لإهانة المواطن وتعذيبه؟
رابعا: تعريفك للطبقات في الفيلم قد جانبه الصواب كثيرا، فالبحيري العامل، لا ينتمي إلى الطبقة المتوسطة كما قلت على لسان إبراهيم عيسى – كان لازم تاخد بالك منها دي يا إبراهيم – وإنما هو من الطبقة العمالية الكادحة، وزوجة هشام البحيري – ساندي – وهي صديقة "شهد" عشيقة هشام، تنتمي أيضا للطبقة التي هي تحت خط الفقر، أو الطبقة العشوائية، مثل "شهد". أما "ريم" التي وصفتها بأنها من طبقة متوسطة أيضا، فالمنزل الذي تقيم فيه والدتها لا ينتمي أبدا للشريحة المتوسطة، وإنما إلى الطبقة الفقيرة، فلماذا أطلقت عليهم جميعا كلمة "متوسطة"؟ هي كلمة "كادحة" قبيحة؟
وإذا كانت ريم قد تزوجت من صلاح البحيري، فلماذا تركت والدتها تعيش في هذا المستوى؟ أليس منطقيا أن تعيش معها في قصرها المنيف؟
على كل الأحوال، ربما يعلم المخرج خالد يوسف أنه واحد من أفضل مخرجي هذا الجيل، لكنه ليس بالضرورة كاتب سيناريو على نفس المستوى، وأظن الأجدر به كان الاستعانة بكاتب سيناريو مختص، وألا تسيطر عليه الرغبة في "السيطرة" على الفيلم، أعط الخبز لخبازه يا باشمهندز خالد.

No comments: