|
اختلف بعض أنصار سيدنا علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ معه حول مجريات الصراع مع معاوية والي الشام, ونادوا بالحاكمية, أي بالحكم لله, وخرجوا عليه, فكان رد الخليفة أمير المؤمنين بالغ الدقة والشمول والعمق, حيث قال: كلمة حق يراد بها باطل. وقرر الخوارج قتل كل من سيدنا علي ومعاوية وعمرو بن العاص, ولم يتمكنوا سوي من قتل أمير المؤمنين, قتله عبدالرحمن بن ملجم وهو خارج لصلاة الفجر. وكانت النتيجة استقرار معاوية علي قمة الخلافة الإسلامية, وانفراد عمرو بن العاص بحكم مصر, الجوهرة التي تطلع للفوز بها من وراء تحالفه مع معاوية, ثم تمكن معاوية من تحويل الخلافة إلي ملك يخلفه فيه أولاده ومن يأتي بعدهم من أسرته. وفي ظل سلطة معاوية لم يعد بيت المال, بيت مال المسلمين, بل بيت مال الخليفة, يستخدمه كما يشاء لتحقيق أهدافه, أما الخوارج فقد طوردوا, وأعمل فيهم البيت الأموي السيوف وقتلوا منهم ما لا يمكن إحصاؤه, وانتهي الأمر بهم إلي الخروج من التاريخ. فهل كانت تلك النتيجة هي التي تطلعوا إليها؟
أبدا.. لقد تصوروا أنهم أفقه من الإمام علي, وأكثر حرصا علي شريعة الله من ابن عم رسول الله وزوج ابنته وأول من أسلم من الشباب, وأنهم الأكفأ والأقدر علي إحقاق الحق, والحكم بما أنزل الله, لذا قرروا الخروج عليه, ولم يحصدوا من وراء هذا الخروج سوي نشر وتعميق الفتنة, وشق صفوف المسلمين, وإسالة الدماء بغزارة, وهذه الفتنة لم يبرأ منها العالم الإسلامي حتي الآن, ولم يستفد من خروجهم, ونجاحهم في قتل سيدنا علي رضي الله عنه, سوي معاوية بن أبي سفيان. ويتكرر مشهد الخروج علي الخلافة, عندما يقرر الحسين بن علي الخروج علي يزيد بن معاوية. وكان معاوية قد ألزم الناس بمبايعة ابنه يزيد في حياته, إن بالسيف, أو بالمال, وعندما مات معاوية بايع المسلمون يزيدا, ولكن نفرا من المسلمين رفضوا مبايعته وفي مقدمتهم الحسين بن علي. وقرر ابن بنت رسول الله التوجه إلي الكوفة لينال بيعة أهل العراق, ولكنه فوجئ بالخذلان, وفي كربلاء سالت دماء آل بيت الحسين الذين خرجوا معه, وقتل الحسين بعد أن حالوا بينه وبين الماء هو وأهله, ثم قطعوا رأسه وحملوها إلي يزيد. لقد قرر الحسين الخروج علي الخليفة دون أن يتحسب أو يحسب للموقف حسابه, ولم يستجب لنصيحة الناصحين وهم كثر في مقدمتهم شقيقه الحسن وابن عباس, فماذا جري؟
لقد تمكن منه جنود يزيد, وانتهي الأمر بقطع رأسه. ولم يستطع الحسين أن يتبين قبل أن يخرج علي الحاكم أن الأمر ليس نزهة, وأنه لا يملك القوة التي تساعده علي مناوأة الحاكم, وأنه لا يمكن الوثوق بالوعود التي قطعت له, إذا ما كانت السيوف والأموال تؤدي وظيفتها لمصلحة الحاكم, فيتزايد أنصاره في حين ينفض الناس عمن خرج عليه. وسرعان ما يقرر عبدالله بن الزبير الخروج علي الخليفة دون أن يستفد من درس الحسين, فتتقدم جيوش السلطة, أي جيوش الحاكم وتقتحم عليه مكة, ولا يكتفي القائد بالتمثيل بجثة ابن الزبير, بل وينتهك حرمة بيت الله.
هذه الدروس الثلاثة يعرفها الناس, ومع ذلك يتكرر خروج البعض علي الحكام دون أن يتعمقوا في فهم ما جري, ودون أن يدركوا أنهم لن يحققوا من وراء هذا الخروج أي خير, فالحاكم يملك القوة, والإمكانات والحرص علي الاحتفاظ بالسلطة, ومن حوله قوي أكثر حرصا علي بقائه إن طمعا أو خوفا من التغيير أو من القوي الخارجة عليه, وإذا لم تتوافر للخارجين علي الحاكم قوي وإمكانات وقدرة علي الاستمرار في الصراع فإن الخروج ليس أكثر من عملية انتحار.
وأول منظر أو مفكر معاصر طرح آراءه حول هذه القضية هو سيد قطب, وقد انتهي علي حبل المشنقة, أما الثاني فهو شكري مصطفي, ولم يختلف مصيره عن مصير سيد قطب, وإن صحب معه كثيرا ممن آمنوا بفكره, وكان الثالث صالح سرية قائد انقلاب الكلية الفنية العسكرية, وبعد الفشل المتوقع لمثل هذه العملية الساذجة, التقي ونفر من جماعته بملك الموت.
وتعددت الجماعات التي أعلنت الخروج علي الحاكم, ولم تتغير النتيجة, انتحار جماعي, وتغييب للآلاف خلف أسوار السجون والمعتقلات.
هذا بالنسبة للخارجين في مصر, أما بالنسبة للخارجين علي الحكام في العالم العربي, ففي مقدمتهم الخارجون علي السلطة بالجزائر, وتوضح أرقام الضحايا أنهم في المقدمة, فقد ذبحوا وقتلوا عشرات الآلاف من الأبرياء, وسقط منهم عشرات الآلاف, ولم تتغير النتيجة.. انتحار جماعي للخارجين علي الحاكم, ومن بعدهم من خرجوا علي حكام المملكة السعودية, بدءا من جهيمان العتيبي حتي المجموعات الحالية, وكل هؤلاء لم يتورعوا عن انتهاك حرمة الكعبة ومدينة مكة.
هذا بالنسبة للجماعات التي قررت الخروج, أما بالنسبة للإسلام والمسلمين والأوطان, فإن النتيجة شديدة الوضوح, لقد نجحوا في تشويه صورة الإسلام, ودفعوا السلطات إلي تبني سياسة تجفيف المنابع, بما يعني الحد من التعليم الديني, والتضييق علي الجميع, والسيطرة علي المساجد والدعاة, ووضع الكثيرين تحت رقابة صارمة, أما بالنسبة للمسلمين فقد سالت الدماء بأيدي مسلمين آخرين في اقتتال بلا جدوي, وبلا عائد, وسادت الفتنة, وانتشرت الشكوك والمخاوف, وتراجعت القضايا الدينية, خاصة قضايا التطوير والتحديث الفكري, والعمل علي مواكبة الفكر الإسلامي للعصر, وبعد أحداث11 سبتمبر حوصر الإسلام والمسلمين بالاتهامات, ووضع الجميع في موقف الدفاع, وبدأ العالم حربا ضد الإرهاب قضت علي نظام طالبان, وأدت إلي احتلال العراق, وتزايدت الضغوط علي إيران وسوريا.
وعندما يسأل المخلصون من أبناء الأوطان التي تعرضت وعاشت هذه المأساة أو تلك المآسي, عن الجدوي من وراء ما جري؟ ومن الذي استفاد؟ ستكون الإجابة شديدة الإيلام, فالخاسر الأكبر هو جموع المسلمين, والأوطان, ثم هذه الجماعات التي فقدت عشرات الآلاف من أعضائها, أما المستفيد أو المستفيدون فهم الأعداء, أيا كانت الأسماء أو المسميات.
وإذا كانت هناك جماعات قد استعادت وعيها وتراجعت عن فكر ومنطق وأسلوب الخروج المسلح علي السلطة, وتبنت منطق الصلح مع النظام باعتباره خيرا, ودونت فكرها ومنطقها الجديد الذي أكد فساد فكرة الحاكمية, ومنطق تكفير الحاكم أو النظام أو الشعب في مجموعة كتب صدرت تباعا, فإن ذلك مؤشر واضح علي مدي نضج هؤلاء الناس, ووضوح رؤيتهم, وحسن استفادتهم من الدروس التي كشفت عنها سنوات الصراع الدامي, وقد استند أصحاب الفكر والمنظرون في تراجعهم إلي أسانيد من القرآن والسنة والتاريخ للرد علي فكرة الحاكمية.
ويظل السؤال: وهل سيؤدي ذلك إلي توقف توالد الجماعات الساعية للخروج علي النظم الحاكمة والحكام؟ وهل هناك أمل في توقف الموجات الإرهابية أيا كانت الرايات الإسلامية التي ترفعها, أو الفكر الذي تستند إليه؟
وبصورة أخري.. هل سيتوقف المسلمون عن قتل المسلمين, وتخريب أوطانهم, وتبديد قدراتهم علي إعادة البناء, وتجاوز ما هم فيه من تخلف وانهيار؟ |