المقال كان منشور في الشروق
دعانى بعض الأصدقاء إلى عشاء فى أحد مطاعم واشنطن، والعرب فى الغربة يجد بعضهم بعضا بلا سابق نية ولا تخطيط، فوحدة اللغة ينتج عنها وحدة النكات والأمثال والمقتبسات من الأفلام المصرية أو المسلسلات السورية أو الأغانى اللبنانية، وبيننا من المشترك ما لا يدخل فيه سوانا، وكان منا العراقى والفلسطينى والمصرى واللبنانى والكويتى والبحرينى إلى آخرين.
وبينما نحن فى هيِّن الكلام إذ دخل علينا شاب عربى تبين لاحقا أنه زميل لأحد أصدقائنا يشاركه سكنه. شاب ضخم الرأس والجثة، بالغ الله فى طوله وعرضه، وبالغ هو فى عرض ربطة عنقه فكانت أبرز ما فيه. وربما لم أكن لأكتب هذا المقال لولا ربطة عنقه، فقد كانت على شكل العلم الأمريكى، وأمام العلم صورة لكرة سلة بنية.
والشاب من بلد عربى تحتله القوات الأمريكية، وأعداد القتلى فى ذلك البلد يبلغ بعض تقديراتها المليون، وما زادنى علة على علة، أن إحدى الفتيات المصريات الجالسات معنا قالت له، صادقة غير ساخرة، إنها معجبة بربطة عنقه، فقال إنها تمثله لأن عليها صورتين للأمرين اللذين يعشقهما فى هذه الدنيا أكثر مما سواهما وهما كرة السلة والولايات المتحدة الأمريكية فغادرت المطعم.
فى مؤتمر لإحدى الجمعيات العربية الكبرى فى الولايات المتحدة، وجدت مَنَاضِدَ فى المدخل عليها إعلانات تدعو الشباب العربى الأمريكى للالتحاق بمكتب التحقيقات الاتحادى، ووكالة الاستخبارات المركزية، والحرس الوطنى. كان أحد الإعلانات عبارة عن صورة لشاب عربى واقف فى لباس مدنى، إلى جانبها صورة لنفس الشاب لا يظهر فيها إلا وجهه مموها تمويها عسكريا ويعتمر خوذة خضراء من خوذ الجيش، وبين الصورتين فقرة عنوانها: «مشاركتى ساعدت فى إبقاء بعض الناس على قيد الحياة».
والفقرة على لسان الفتى المصوَّر، يقول إنه كان فى دورية فى بغداد، حين أقبل عدد من العراقيين نحو سيارته العسكرية، مما أخاف الجنود وكادوا يطلقون النار، لكن معرفته بالعربية مكنته من أن يفسر لهم أن العراقيين لا يريدون بهم شرا بل يسألونهم المساعدة فى طارئ طرأ على الحى.
وتحت هذه الفقرة كلام فى إطار مستقل، ينفى بعض الشائعات عن العمل فى الحرس الوطنى، فيؤكد مثلا أن الشباب العرب المتطوعين فى الحرس لن يطلب إليهم أن يتجسسوا على عائلاتهم.
وأنت إن سألت بعض هؤلاء العرب الأمريكيين عن المنطق وراء ما يفعلون، لقالوا لك إنهم يريدون تغيير السياسة الأمريكية من الداخل، وإن انخراطهم فى خدمتها أنجع وأنفع فى إقناع الحكومة الأمريكية وشعبها بكون العرب أصدقاء لا أعداء، وأن مصلحة الولايات المتحدة تكمن فى التحالف معهم، فإن سألتهم تحالفهم ضد من؟ لم يستطيعوا الإجابة.
ولم ألم الجمعية ولا صاحب ربطة العنق العملاقة، فمنطقهم هو منطق حكوماتنا العربية، وهو ما سميته سابقا منطق الوطنية الأليفة، وطنية لا تؤذى الاستعمار بل تحالفه وترى فى صداقته الضمانة الوحيدة للاستقلال. إن منطق عملية السلام مع إسرائيل، هو أن التعاون الأمنى معها سيفى باحتياجاتها الأمنية بما يغنيها عن احتلالها للضفة الغربية والقطاع فتنسحب وتترك للفلسطينيين أن يستقلوا، على أن يكون هذا الاستقلال مشروطا باستمرار وفائهم لها بأمنها.
كذلك كان منطق معاهدة السلام المصرية ــ الإسرائيلية، فهى تقضى بأن تنسحب إسرائيل من سيناء مقابل ألا يأتيها من سيناء أى تهديد، أى أن تكون سيناء آمنة على إسرائيل كما لو كانت تحتلها لا تزال. كذلك كان منطق الانعزاليين فى لبنان أيام الحرب الأهلية وهم أصحاب النظرية الشهيرة القائلة بأن قوة لبنان فى ضعفه، فقد كانوا يقولون إن لبنان آمن على نفسه ما كان آمنا على إسرائيل.
وليس هذا بالداء الحديث فى العرب، فقديما ما وقعت الحركة الوطنية المصرية اتفاقية تحالف مع بريطانيا العظمى عام ستة وثلاثين كانت شرطا لاستقلال مصر، كأن الفلاحين الذين استشهدوا منذ عام تسعة عشر إنما ضحوا بحياتهم طلبا لصداقة بريطانيا. وقد وقعت معظم البلدان العربية الواقعة تحت حكم البريطانيين اتفاقيات مماثلة.
ولكن لكل داء دواء، ففى يوم غير بعيد عن يوم الربطة، اتصل بى أحد أصدقائى، وهو صعيدى نوبى جاء للدراسة فى الجامعة التى أعمل بها، كان صوته متوترا، يقول إن مشكلة ما حدثت بينه وبين شرطى مرور، وأنهم أمروه أن يركع، وقال إنه لن يفعل، أخبرنى بمكانه ثم انقطع الاتصال، فأسرعت إليه، ليخبرنى أنه كان يريد قطع الشارع قريبا من مبنى الكونجرس، فمنعته شرطية من العبور، فقدر صاحبى أن شخصا ما مهما أو موكبا سيمر من الشارع، ثم رأى آخرين يعبرون غير بعيد، ولم تمنعهم الشرطية، ونسى صاحبى أنه أسمر وأن الذين عبروا بيض، وأنه كان يحمل حقيبته الدراسية على كتفيه، فذهب إلى حيث عبر الناس ليفعل كما فعلوا، فلحقت به الشرطية، وشتمته، ثم أمرته بالوقوف مكانه إلى أن لحق بها شرطيان آخران صاح أحدهما فيه أن يركع على ركبتيه، فرفض صاحبى أن يفعل.
ولولا أن الشرطى الآخر فتش حقيبته ولم يجد إلا كتبه الدراسية لكان واجه من الثلاثة يوما عبوسا، وكان يقول لهم لقد أوقفتمونى لأننى عربى، لأننى أسمر، ولكنهم فى آخر الأمر تركوه.
كان هذا الصاحب جالسا إلى جانبى فى وقعة الربطة، فملت إليه وقلت له، إن هناك أكثر من وسيلة للركوع، لكن أسوأها ما يعلق فى الأعناق.
هههه
ReplyDeleteبص انا مع اني امنتي السفر للولايات المتحدة
بس علي فكرة مش شرط نركع ليها
انا مسلم عربي وافتخر
لكن الاندماج مع الاخر مش عيب لكن العيب اني اندمج مع الصهاينة
العيب ان اكون في بلدي بحارب ابن بلدي مش بحارب المحتل
ربنا يسترها مع الجميع
Like !
ReplyDeleteإن هناك أكثر من وسيلة للركوع، لكن أسوأها ما يعلق فى الأعناق.
ReplyDelete:)
هو انا مش فاهمه قوى ماهم كلهم قاعدين فى واشنطن يدرسوا و يعيشوا و يشربوا من المسيسيبى بتاعها و ياكلوا من طينها مش مشكله بقه لما واحد يعلنها صراحه انه بيحبها عن طريق ربطه عنق عملاقه المشكله فى الباقيين اللى مش بيعلنوها صراحه و بيشتموها علنا لكن بيموتوا فى ترابها و مؤمنين بها كمثال للحريه فى العالم و الدليل عيشتهم فيها و اقامتهم فيها الدائمه عادى يعنى ماجاتش على ربطه العنق الظاهره لأنهم فى رأيي كلهم لابسين رابطه العنق بس احنا اللى مش شايفينها
ReplyDeleteالرد على الاخت الي فوق
ReplyDeleteتصدقي اني اول ما قرأت المقال صعبت عليا نفسي لاني اكتشفت ان الغربة اساسا ركوع ... بس الفرق هو ان حتى لو ركعت هل انت راكع خاضع ام قانع هل ركوعك اختياري ام اجباري ؟؟ الموضوع صعب يتشرح في مقاله او مقالتين بس فكرتي هي .. رفقا بتاركي اوطانهم كراهتاً
ما اعتقدش ان اغلب الي سابو بلدانهم وعايشين في امريكا او اوروبا مبسوطين بالسياسات او حتى بس بعقلية مجتمعهم الجديد حتى وان اعجبوا بكم الحريات والخدمات الموفرة في الغربة.
مسألة الركوع فيها كم هائل من التناقضات لدرجة ان الواحد فعلا راسة توجعة كلما فكر في الموضوع وتدخل الواحد في اكتئاب كفاكم الله شره .
تحياتي