Wednesday, 20 December 2006

رأينا الشحاذين..فأين النبلاء




غريب منطق أولئك الذين يغلقون نوافذ سياراتهم في وجه الكناسين وبائعي الفل والمناديل الورقية. لم أدخل في مناقشة مع أحدهم، ولكن يمكنك بسهولة أن تعرف منطقه إذا أسعدك الحظ وصادفت سيارة فارهة يطل منها رجل ممن هم "قفاهم عجينة/كروشهم سمينة" وهو ينهال على البائع أو الكناس بمحاضرة "أخلاقية" مرددا: "لازم تشوف لك شغلانة بدل اللي بتعمله ده، وبطل تزن على الناس لازم يكون عندك كرامة، دي اسمها شحاتة مقنعة"! بالطبع يظن "الشحاذ المقنع" أن الرجل "خواجة" بدليل أنه يتحدث "لغات"، ومنعا للإحراج، ولضيق وقت الإشارة لا يحاول البائع – الذي يكون غالبا طفلا – أو الكناس – الذي يكون غالبا مسنّا – مطالبة السيد بترجمة فورية فيجيبه: "كل سنة وإنت طيب يا باشا" بمعنى: "قصّر...ح تدفع وللا إيه؟"

إن أحسنا الظن، فالسيد المبجل لا يعلم أن هؤلاء "الشحاذين" ينتمون إلى ستة ملايين عشوائي، تحفل بهم القاهرة وضواحيها، وأنه بالفعل يحتاج الجنيه الذي يبخل به الباشا، ليأكل، وأنه إن لم يحصل على هذا الجنيه، سيضطر إلى انتقاء ما لذ وطاب من مزابل المحروسة. ولا بأس في ذلك بالنسبة له، ولكنه فقط يحب أن يجدد في صنوف الطعام التي يلتهمها، طمع الدنيا بقى. وأظن أن السيد المواطن لا يحتاج لمعرفة هذه المعلومات، فملامح فقر الدم، وكافة أمراض التلوث، ودلائل عدم اقتراب المياه – في يوم من الأيام – من جسد "منعدمي الكرامة"، بادية عليهم من الوهلة الأولى.

وإذا أسأنا الظن، فالدنيا لم يعد بها خير، وليس أدل على ذلك، من صرخات الاستغاثة التي تخرج من نفس الأسياد المبجلين، إذا ما لمحوك وأنت تشتري علبة مناديل ورقية، أو عقد فل من هؤلاء، فما أن تقدم على هذه الخطوة الخرقاء، حتى تجد من "يتدلدل" من نافذة سيارته: "ما تديهمش، إنت كده بتشجعهم على الشحاتة، لا لا لا..."، ثم يصرخ صرخة أخيرة تشبه تلك التي تطلقها نادية الجندي في نهاية كل أفلامها: "لعععاااااااااااا".

طيب يا سيدي، لا تشجعهم على الشحاذة، فعلى ماذا تشجعهم إذن؟ على السرقة؟ أو ترويج "البغاشة" أي المخدرات؟ أو الانضمام إلى عصابات لسرقة المنازل؟ أو دعارة الأطفال؟ أو حتى العمل لصالح إسرائيل؟ أم أنك تظن أن هذا المواطن "غير النافع"، حين يستمع إلى تلك المحاضرة المبهمة التي تبصقها في وجهه، سيقف مع نفسه وقفة، ويذهب للعمل كساعي في أحدى شركات "الاستكراد والتصبير"، ويلتحق بمدرسة ليلية، أو يدرس من منازلهم، ويتفوق في الدراسة، ومع كل شهادة يجتازها بنجاح باهر، يعطيه صاحب الشركة علاوة، ويمنحه صلاحيات وظيفية جديدة، حتى يتفوق في الثانوية العامة، ويلتحق بكلية الطب أو "التب" كما يقول عنها "منعدمو الكرامة"، ويتخرج ليصبح معيدا في الكلية، فينظر إليه صاحب الشركة بحنان قائلا: "إنت يابني بتفكرني بنفسي، أنا برضه بنيت مجدي من الصفر.."، ثم يزوّجه ابنته، لتسافر معه في البعثة الدراسية التي منحته إياها الدولة، تقديرا لنبوغه، ويكافح في بلاد الفرنجة، ويبهرهم تفوقه، و"يتقدم يتقدم وكفاية خلاص يتندم"، وأخيرا يعود لوطنه وهو يحمل شهادة الدكتوراه التي حصل عليها بتفوق في المسالك البولية والبواسير، ويجري عملية الفتاء لكل أبناء قريته مجانا، وتحاول شركة أمريكية احتكار اختراعه الذي يمكنك من أكل "الشطة" دون نزول – لامؤاخذة – البواسير، ولكنه يرفض وتصاحب موسيقى رأفت الهجان صوته وهو يقول: "البلد دي ياما إديتني..."؟

ولا مانع من أن تنساق وراء أحلامك لتتخيل أن هذا الطبيب المخترع المشهور يذكرك في لقاء تلفزيوني ويشرد في شجن وهو يقول: "الراجل ده أنا ما أعرفوش، بس هو اللي غير حياتي....".
حسبنا الله ونعم الوكيل في الأفلام العربي
.

No comments:

Post a Comment

Note: only a member of this blog may post a comment.